في ذكرى أربعينية الكاتب الراحل محمد شمسي
هو وحده دون غيره من فتيان الستينات كان قادراً على إثبات حضوره كل الوقت , وعلى كفاءة غيابه كل الوقت , يدعى بين الصحب من أصحاب كلية الشريعة "محمد" ويدعى في مؤسسات النشر والكتابة والشعر ..محمد حسين المطلبي .
الصحب من اصحابه يومها كثيرن , داخل حرم الكلية وخارجه منهم وليس كلهم "حاتم الصكَر وصباح العاني وصبيح الشحاذ "رحمه الله" وسامي الموصلي ومعد الجبوري , ومنهم وليس بينهم _تلك المجموعة الكبيرة من رفقة الشريعة _ احد خارج دائرة الإبداع والعشق الثقافي .
محمد المطلبي , وحده من دون غيره ,بطل المفاجأت والمتغيرات والتحولات , يسافر بلا موعد , وينام من غير موعد ومن غير موعد يكتب قصيدة , وبمفاجأة لاتخطر على بال أحد يزورك في بيتك حافظاً حفاظاً لصلة الوصل وخيط الصداقة من الانقطاع وبمفاجأة تكتشف إنه "عاف" وظيفته وإنتقل الى وظيفةٍ جديدة لايمكث فيها حتى يغادرها بعد يوم او اسبوع او عام , لان هذا الكائن الذي لايعرف الاستقرار يصعب على المكان ان يحتويه فالإحتواء سجن وقيد وكساح أطفال والمطلبي مسكون مسكون بالعافية وروح المغامرة .
..هاهو الأن في الستينات ,يقف في الطابق الثاني من مبنى كلية الشريعة القديم , ناظراً بإعتداد وكبرياء وتأمل الى طلبة الشريعة وهم في الساحة إذا وقعت عينيهِ على عين أحد من أصدقائهِ دعاه الى الصعود سريعاً , ويصعد الصديق المدعو بأقصى سرعتهِ ظناً منه ان في المطلبي حاجةً سريعة وماسة الى إستدعائهِ ..ويصل الصديق في ثوان راكضاً
لاهثاً ..ها محمد ..خير ..خوماكو شي؟!
وبعينيهِ اللتين تحملان الكثير من المرح والسخرية وبحركة وطريقة خطاب وشيء من السخرية الدفينة يرد على صديقه وكأنه يؤدي دوراً كوميدياً على المسرح .
أنظر اليَّ جيداً ..أنظر الى وقفتي ..أليست وقفة شاعر كبير !!
ويثير الضحك ,يثير موقفاً يدعو الى الضحك لما ينطوي عليه الموقف من مفاجأة غير متوقعة , وهو وحده محمد المطلبي من يقدر على صناعة المفاجأة ومن يقدر على إشاعة جو المرح حيثما إنعقدَ مجلس للأصدقاء , وهو وحدهُ الذي نام ليلتهِ تحت إسم محمد حسين المطلبي وأصبح صباحهُ تحت إسم محمد شمسي ضمن مفاجأة جديدة ..
..هذا الذي ودعنا مبكراً لايحتويه المكان ولايطيق المكوث طويلاً حتى مع إسمهِ , يتقافر مثل فراشة متعافية من مكان الى مكان , حقاً كان كل مافيهِ ممتلئاً بالحياة ضد الموت وبالعافية ضد المرض , كتبَ "لصوص البحر" وحصد جائزة المنظمة العربية للثقافة والعلوم الإنسانية وإمتهن التدريس والإدارة , وأثرى لغة الشعر بـــ "طوفان الشمس في الكلمات " و" دم الشجر الساحلي " وأفتتح أسواقاً لبيع المواد الغذائية ثم أقتربَ في "كوميديا الزواحف " من عالم القصة وأغنى مكتبة الأطفال والفتيان بالعديد من مؤلفاته ,
ولم ينسَ في حضورهِ الموسوعي دوره مع دور النشر والطباعة والعمل المهني في إتحاد الأدباء وفي الوسط الصحفي محرراً لصفحات عابقة بأفكاره الفنطازية ورشاقة أسلوب الجذاب , ثم كانت له مع القارة الأفريقية رحلة لها طعم ..الف ميل بين الغابات !
..ثمة كثيرون في الأزمنة والأمكنة عبر التأريخ والجغرافية يوحون في مرحلة ما إنهم على أبواب إنطفاء روحي أوجسدي ,إنها علامات ودلائل من نوع يمكن قراءته في ذبول فرشاة أو ترهل قلم او رعشة وتر أو تجاعيد حنجرة أو وهن خطوة أو عثرات ذاكرة , ولم يكن هذا المطلبي واحداً من هؤلاء , ففي روحه وجسده حب أزلي خالد لحياة ترفض النمط والتكرار , جديدة متجددة , زاهية مزهوة , متقدة متوقدة , يصعب معها إفتراض أو تخيل النهاية ويستحيل التصور إن هذا النهر المتدفق يمكن أن يتخلى عن مهمة الجريان الأبدي حتى لو جفت البحار أو توقفت السماء عن مطرها الربيعي .
كان الكائن المصمم للبقاء في عيون الصحاب والرفقة عامراً بمئة حلم وحلم حين أستضاف جسده المرض وأقعدهُ عن زمن الفراشات المتعافية , ولم يساور الذهن , ذهن أي منا نحن الذين عرفناه عن قرب , أن يكون المرض أكثر من لعبة من لعب المتغيرات والبحث عن تحديث للتجربة الذاتية , ولم يساور ذهن المطلبي إنه سيجد نفسه مطالباً بالتخلي عن مفاجأتهِ , هذا فوق الإحتمال , فوقَ مايستطيع قبوله , فإذا به يفاجيء الجميع بإنه كعهدهم بهِ , لايعرف السكون ولايلوي ذراعه لإرادة الإستقرار ..ونهض من فراشهِ متعكزاً على مابقيّ في الجسد الذاوي من قطرات دم لا تملأ قدح شاي صغيراً ,وعلى رؤوس الاشهاد والأصدقاء قرر السفر وحيداً , في أول مفاجأة غير سارة , الى مثواه الأخير مؤكداً لأحبائهِ ومريديهِ ,إنه حتى في مفاجأة الموت لايمكن إلا أن يكون هو ..
1996
حسن العاني
مجلة الف باء
___________
للأمانة الأدبية
تمت الكتابة وحفظ المقال بواسطة
باسمة السعيدي
14/يوليو/2016
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق