لمياء الألوسي
عندما تدفقت الرغبات فينا .. وأردنا أن نبدأ بتلك المحاولة المشتركة بيننا ، أنا والأستاذ جمال نوري الأديب الذي قال لي : هيا لنبدأ الرحلة معا وليكن ما يكون في عالم ضبابي مليء بالعسس والبارود
وبدأنا .. لا نعرف احد ، كل وضع قصصه أمامه ، والتي لا تتحدث عن السياسة أو الحرب الدائرة بين العراق وإيران آنذاك .. والكل يكتب عنها وعن بطولاتها
أما نحن الاثنين فلقد كانت قصصنا تحكي عن التشتت ، والحزن ، والخوف ،والانكسارات التي يحس بها شباب لم يذق الامرارة الحرب .. تملؤنا رغبة مجنونة في خوض غمار النشر مهما كانت العواقب
كان يجب أن ترفع الى وزارة الثقافة والإعلام ، لكي تحصل الموافقة على النشر ، كنا نعرف إنها مغامرة ونحن في عام 1985 يعني في قمة التأزم والحرب ، لكن رغم القلق والخوف كنا نتمنى لتلك القصص أن تجتاز مقص الرقابة ، وان تخرج سليمة معافاة من تحت يد المشرف، الذي يجيز صلاحية النصوص ، ولقد عرفنا بالصدفة انه الأستاذ باسم عبد الحميد حمودي
وقد كان .. أفرج عنها الأديب الطيب .. لم نصدق أنفسنا .. قلنا إننا أدباء وليسمع العالم .. وبدأت رحلة العذاب الجديدة بين المطابع والمبالغ المطلوبة وعسر الحال الذي جعلنا نقايض على سعر الورق ، ونوافق على الأرخص ، وكان ورق الجرائد .. كنا فرحين إنهم وافقوا لنا على طبع خمسة آلاف نسخة ، لم نفكر بالتسويق كيف سيكون ؟ ومن سيشتري هذا العدد الكبير ؟ ركبنا الأمواج لوحدنا .. وبعد الرهانات العديدة والديون المتراكمة ، والتي حلمنا بسدادها من بيع الكتاب .. وكنا نتخيل إن الكل سيتلقفه ، فخمسة آلاف ستزغرد في كل بيت ومكتبة خاصة .. وإننا اخترنا له اسم الجدران ، لان إحدى قصص جمال نوري كان اسمها الجدران وأيضا تيمنا بكتاب الجدار لسارتر
وبعد عدة معارك حقيقية مع صاحب المطبعة .. خرج الكتاب ، مهلهلا ، فقيرا لكن (القرد في عين أمه غزال )وكأننا لم نر كتابا في حياتنا ، فرحنا به وكأنه قبلة أنظار الدنيا .
المشكلة الحقيقة هي مشكلة التسويق ، وكنا الاثنين في سلك وزارة التربية .. فدفعنا بالكتاب ليتم الموافقة عليه من قبل الوزارة ، ويتم شراء عدة نسخ من الكتاب .. لكن آمالنا باءت بالفشل
وعندما راجعت الوزارة .. كان التقرير حول الكتاب أول صدمة قاتلة لي ( لا نوصي بشراء الكتاب لأنه محبط لأمال الشباب وسوداوي ومتشائم ولا يحفز الشباب على الحياة و..و.......)
عند ذلك توجهت الى اتحاد الأدباء في بغداد .. فقيل لي أن الأستاذ محمد شمسي رئيس الاتحاد في ذلك الوقت في غرفته .. فدخلت وأنا في قمة اليأس والخجل والارتباك .. ولكن وبعد لحظات وعندما عرف أني وزميلي نمارس الكتابة .. ونحاول أن نبدأ جنون النشر .. وبحنانه الكبير أحسست أني انتقل الى عالم آخر .. عالم من الطيبة والحب والصداقة والرغبة الحقيقة في الاحتواء ..
قلت له : تورطنا بخمسة ألاف نسخة .. لا احد يشتريها ماذا نفعل ؟؟ ليس لنا دراية بأي شيء .. إضافة الى إننا نسينا انه لا يوجد من يقرأ في خضم هذه الحرب والقهر..
ضحك تلك الضحكة النقية الصافية : ولا يهمك تعالي نرتب كل شيء ونبدأ البداية الصحيحة .. ولكن أين زميلك ؟
قلت له : لقد تعبنا معا فقررنا أن نمشي كل على حدة .. والنتيجة في صالح الكتاب ، وتسويقه
منذ ذلك اليوم ، فتح أمامي أبوابا مغلقة ، لا يمكن أن تفتح إلا إذا وضعت فيه كارت شفاف بشفافية وصدق الأديب المرحوم محمد شمسي ، وحبه الكبير ، والذي أوصلني إلى كل الصحف والمجلات .. ثم أرسلني إلى دار الكندي للنشر في الحارثية .. والذي عندما عرف أني من جانب الأستاذ محمد شمسي تلقف مني ألف نسخة ، وقال بعد ستة اشهر تأخذين حصتك من البيع .. ولكن بعد سنة لم يقل إلا إن الكتاب لم يباع في ذلك الوقت ، والسبب سوء التوقيت فسنوات الحرب جعلت الكل يترك شراء احتياجاته الضرورية فكيف بكتاب متشائم ككتابكم لم احصل من الألف نسخة إلا على مبلغ 45 دينار فقط كمنحة منه كي لايزعل الأستاذ محمد شمسي
وكانت الثمرة .. أني تعرفت على ذلك التواضع الجم ، الذي يحمله ذلك الإنسان العظيم والذي في لحظة انكسار حاسمة في حياتي ولازلت في أول الطريق ، منحني ذلك البريق الرقراق منحني القدرة على الوقوف أمام كل الصعاب
التقيته بعد ذلك في اتحاد الأدباء كثيرا ، فأخبرته عن قصة جميلة عن شاب ، كان يدرس في أحدى جامعات القطر ، و يسافر بين فترة وأخرى الى أهله في بغداد فلم يكن راتب والده الموظف الصغير يكفيه وأخوته الستة ، فجعله ولعه بقراءة الكتب الى سرقتها من المكتبات هو وأصدقائه ، فلا يتحمل أن تعب الحياة طريقها بدون أن يغرق رأسه في كتاب ما
وذات يوم وفي أحدى سفرياته تلك وجد جنديا شابا يجلس ساندا كوعة على ركبتيه وقد أزاح بيريته الى الوراء وبدا مهموما فاقترب منه .. عرف انه يلتحق بوحدته على جبهات القتال وهذا ماكان يجعله في قمة بؤسه وإحساسه بالغثيان
فقال له : أنت في حاجة الى كتاب صغير وجميل يذهب عنك هذا الإحساس بالقرف تعال معي
فقاده الى تلك المكتبة الصغيرة في ركن المراّب البعيد
فانتقى له الكتاب الرائع للمرحوم محمد شمسي بعنوان (كوميديا الزواحف)
ودفع له ثمنه قائلا : أني أمنحك هذا الكتاب كي تتذكرني به .. وتعرف انه أحسن كتاب وان محمد شمسي أرقى أديب عراقي .. أنا لا ادفع ثمن كتبي لكنه يستحق أن ادفع ثمنه
اطرق عندها أستاذي العزيز وقال : هذه القصة تساوي عندي كل ما كتب عني في كل الجرائد والمجلات من مقالات النقد والإطراء لأنها خزين حقيقي لي
هكذا يكون الإنسان جميلا وهكذا يكون الأديب مترفعا ورائعا
لم احزن في حياتي على شيء قدر حزني على انقطاعي عن زيارته واني لم أوفيه حقه هذا الإنسان الرائع
رحمة الله عليك محمد شمسي .. أيها المبدع الرقيق .. إن الكلمات لتخجل من رقيك ونبلك كنت أتمنى لو انه الآن على قيد الحياة لملئنا حياة وسعادة بقلمه الرشيق على مواقع الانترنيت
10/فبراير/2008
لمياء الألوسي
مركز النور
_________________
للأمانة الأدبية
للأمانة الأدبية
تمت الكتابة والحفظ بواسطة
باسمة السعيدي
13/يوليو/2016
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق